نظن كثيرًا أننا نختار أفكارنا كما نختار ملابسنا أو وجبة غدائنا. نحب هذه الفكرة لأنها تمنحنا شعورًا بالتحكم، بالاستقلالية، بالهوية. لكن، هل نحن من نملك أفكارنا حقًا؟ أم أن هذه الأفكار هي من تملكنا وتديرنا من حيث لا ندري؟
الأفكار لا تنبت في الفراغ، بل تتشكّل داخل بيئة معقدة: الأسرة، المدرسة، الإعلام، اللغة، الدين، الجغرافيا، وحتى التفاصيل الصغيرة كأحاديث العائلة في الطفولة، أو وجهة نظر صديق مقرّب. كل هذا يصنع طبقات من التصوّرات داخلنا، ثم نسير بها ونحن نظن أننا اخترناها.
ولعلّ الأكثر خطورة، هو أن بعض الأفكار تتخفى في ثياب “البداهة”. لا نراها كأفكار، بل كحقائق مطلقة لا جدال فيها. هذه هي الأفكار التي تملكنا بحق. هي التي تجعلنا نرى المختلف غريبًا، والناقد مستفزًا، والسائل مزعجًا.
ثم نكبر، وتُفاجئنا الحياة. نصطدم بتجربة، أو بكتاب، أو بحوار صادق، أو حتى بخسارة موجعة، فتهتز مسلماتنا فجأة. هنا يبدأ المدّ: مدّ الأسئلة، مدّ الشك، مدّ الحاجة إلى إعادة النظر. وهنا نكتشف أن ما كنا نظنه “يقينًا”، لم يكن سوى فكرة… مرّت بنا، أو مررنا بها.
لكن التحدي لا يكمن فقط في اهتزاز الفكرة، بل في تقبّل اهتزازها. كثيرون يشعرون بالخوف حين تتصدّع مسلماتهم، كأنهم فقدوا جزءًا من ذاتهم. وهذا طبيعي، لأن الفكرة حين تعيش فينا طويلًا تصبح جزءًا من هويتنا. لكن الشجاعة لا تعني الدفاع الأعمى عنها، بل التواضع أمام احتمال أنها كانت ناقصة… أو خاطئة.
الفكرة التي نملكها حقًا، ليست تلك التي وُرّثت أو تكررت، بل تلك التي خضنا فيها تجربة فهم، وسؤال، ومحاولة. الفكرة التي نملكها، هي تلك التي قابلناها وجها لوجه، لا تلك التي اختبأت خلف لافتة العادة أو سلطة الجماعة.
نحن بحاجة إلى مراجعة، لا لتهديم الذات، بل لتنقيتها. ومن لا يراجع أفكاره، تراجعه الحياة عاجلًا أو آجلًا.
مد وجزر الفكر ليس ضعفًا، بل علامة وعي. وحده العقل المتجدد يراجع نفسه. وحده الإنسان الصادق مع ذاته يعترف بأن بعض أفكاره اليوم، قد لا تكون معه غدًا.
في “مد وجزر”، لا نكتب لنُثبت رأيًا، بل لنقترب من السؤال. لا نقدّم الحقيقة، بل نقترب منها. وربما لا نصل، لكن يكفينا أن نحاول… بحرية وتواضع.