Skip to content

مسلسل معاوية و “فتنة” طه حسين

كتاب الفتنة لطه حسين

كتابُ الفتنة لطه حسين

كتابُ الفتنة لطه حسين بجزأَيْه، من أفضلِ ما كُتِب عن تلك الحِقبة التي شَطَرَتِ المسلمين بأحداثِها الجَلَل، بدءًا بمقتلِ الخليفةِ عثمان، وانتهاءً بمقتلِ الإمامِ الحُسين.

كان استَفَزَّني مُسلسلُ معاوية لأتوسَّعَ أكثرَ في الأمر وأقرَأَه، حيثُ إنني لا أَثِقُ بالأعمالِ الفنية من حيثُ الدقّةِ التاريخية.

كتبَ عميدُ الأدبِ العربي هذا الكتاب بلُغةٍ بليغةٍ سلسة، بذَلَ جُهدَه فيها ليُبَيِّنَ لكلِّ طرفٍ ما له وما عليه، بعينِ المُحَقِّقِ للأحداثِ التاريخية، وبعينٍ أخرى حياديةٍ لا تَعتورها المذهبيةُ ولا التحيُّزُ لطرفٍ دونَ آخر.

ومن أفضلِ ما قرأتُ فيه ما أوردهُ في مقارنةِ الرجلَيْن عليٍّ ومعاويةَ قبلَ معركةِ صفّين في جزءِ الكتابِ الثاني، أَنْقُلُهُ تالِيًا، ورُبّما أَنْقُلُ لاحقًا بعضًا من نفائسِ هذا الكتاب:

كان الفَرْقُ بين الرجلَيْن عظيمًا في السّيرةِ والسياسة؛ فقد كان عليٌّ مُؤمنًا بالخلافةِ كما تَصَوَّرَها المسلمون أيّامَ أبي بكرٍ وعُمر وفي صدرِ خلافةِ عثمان، يَرى أن مِنَ الحقِّ عليه أن يُقيمَ العدلَ بأوسعِ معانيه بين الناس، لا يُؤثِرُ منهم أحدًا على أحد؛ ويَرى أن من الحقِّ عليه أن يَحفَظَ على المسلمين أموالَهم، لا يُنفِقُها إلا بحقِّها، فهو لا يستبيحُ لنفسه أن يَصِلَ الناسَ من بيتِ المال، بل هو لا يَستبيحُ لنفسه أن يأخذَ من بيتِ المال لنفسِه وأهلهِ إلا ما يُقيمُ الأود، لا يزيدُ عليه، وإن استطاع أن يُنقِصَ منه فعل.

وكان عليٌّ لا يُحِبُّ الادّخارَ في بيتِ المال، وإنّما يُنفِقُ منه على مصالحِ المسلمين، فإن بقي بعد ذلك شيء قَسَّمَه بين الناس بالعدل. وكان يُحِبُّ أن يدخُلَ بيتَ المال، فإن وجَدَ فيه شيئًا لا يُحتاجُ إليه لمصلحةٍ عامّة، فَرَّقَه بين الناس بالقسط، ثم يأمر ببيتِ المال فيُكْسَحَ ويُنضَحَ بالماءِ، ثم يُصلِّي فيه ركعتَيْن، ثم يقول: “هكذا يَجِبُ أن يكون بيتُ المال”. كان عليٌّ إذًا في إنفاقٍ دائمٍ على الناس، ولكنْ على أَساسٍ ثابتٍ من العدلِ والقِسط.

فأمّا معاوية، فكان يسيرُ سيرةً أقلُّ ما تُوصَفُ به أنّها سيرةُ الرجلِ العربيِّ الجَوادِ الداهية، يُعطِي الناسَ ما وسِعَه إعطاؤهم، ويَصِلُ الذين يُريد أن يتألّفهم من الرؤساء والقادة، لا يَجدُ في ذلك بأسًا ولا جُناحًا، فكان الطامعونَ يَجدون عندهُ ما يُريدون، وكان الزاهدونَ يَجدون عند عليٍّ ما يُحِبّون.

وما رأيُكَ في رجلٍ جاءهُ أخوهُ عَقيلُ بنُ أبي طالبٍ مُستَرفِدًا، فقال لابنه الحسن: “إذا خرج عطائي، فَسِرْ مع عَمِّكَ إلى السوق فاشترِ له ثوبًا جديدًا ونَعلَيْنِ جديدتين”، ثم لم يَزِدْ على ذلك شيئًا؟ وما رأيُكَ في رجلٍ آخرَ يأتيه عقيلٌ هذا نفسه بعد أن لم يَرضَ صِلةَ أخيه، فيُعطِيه من بيتِ المال مائةَ ألف؟

كان معاوية إذًا يَعتَمِدُ على مَذْهَبِه هذا في السياسة، ويَعلَمُ أنّه سيَضُمُّ إليه كلَّ مَن كان له أَرَبٌ في الدنيا، ثم لم يكن يَقفُ صِلاتُه على أهلِ الشام، وإنّما كان له عُيونُه في العراق، يُرَغِّبون ويُرَهِّبون، ويُوصِلون الأموالَ سرًّا. ولم يكن عليٌّ من هذا كلِّه في شيء، لم يكن يَحرِصُ على شيءٍ كما كان يَحرصُ على الأمانةِ في المال، وعلى الوفاءِ بالعهد، وعلى ألا يُداهِنَ في الدين. ولم يكن يُبغِضُ شيئًا كما كان يُبغِضُ وضعَ دِرهمٍ من بيتِ مالِ المسلمين في غيرِ موضِعه، أو إنفاقه في غيرِ حقِّه، كما كان يُبغِضُ المكرَ والكيدَ وكلَّ ما يَتّصلُ بسببٍ من أسبابِ الجاهليةِ الأولى.

كان الحقُّ أمامهُ بَيِّنًا، فكان يَمضي إليه مُصمِّمًا، ويدعو أصحابَه إلى أن يَمضوا إليه مُصمِّمين. وكان الباطلُ بَيِّنًا، فكان يَعرِضُ عنه عازمًا، ويدعو أصحابَه إلى أن يَعرِضوا عنه عازمين. وكان له من أجل ذلك أنصارٌ يُحبّونه ويُخلِصون له الحُبّ، ويَذودون عن سُلطانه بأنفُسِهم وأموالِهم.

وهو لذلك لم يَكَدْ يَستقِرُّ في الكوفة حتى جعل أصحابُه يَطلبون إليه أن يَنهضَ بهم إلى عدوِّهم من أهل الشام، ولكنه مع ذلك أبى أن يَسيرَ إلى الشام قبل أن يُرسِلَ السُّفراء إلى معاوية، يَدعوه إلى الطاعة، والدخول فيما دخل فيه الناس، لتكون حجّتُهُ ظاهرة، وليَتبَعَهُ من تَبِعَه على بَيِّنَةٍ من أمرِه، وعلى هُدًى من الله.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *